تعد مشكلة الاغتراب ظاهرة بارزة ومتميزة في العصر الحديث، ذلك لأنه عصر يعكس أزمات سياسية واجتماعية وفكرية وأخلاقية، ولذلك فقد غلبت عليه جوانب اللاعقلانية والنزعات اللايقينية، ومن جهة أخرى شهد هذا العصر شعور الإنسان بقدراته وإنجازاته الهائلة التي سببت له القلق على مصيره والخوف من سرعة التغيير على مختلف الأصعدة والمستويات، لذا فإن الأدب في هذا الواقع لا يثير فينا الاستقرار وإنما القلق والتساؤل، لأنه أدب لا ينتمي إلى عالم مسترخ، وإنما ينتمي إلى عالم الشك والقلق، ومن هنا جاءت مشكلة الاغتراب في التجربة الأدبية... بداية لا بد أن نقف على مصطلح الاغتراب بشكل خاص لأنه مصطلح لا يمكن التعامل معه على أنه مفهوم ومُقعّد بشكل نهائي، إذ أنه لا يزال يعاني من الكثير من الغموض، وربما كان ذلك أمراً طبيعياً، إذ من الصعب تعريف المفهومات الأساسية تعريفاً دقيقاً، لذلك أستخدم هذا المصطلح بدلالات مختلفة ظهر كثير منها بصورة تفتقر إلى التمييز بشدة، إلى حد أنه ليس من الواضح من هو ذلك الذي يفترض أنه مغترب، ولعل سبب الاختلاف والتباين في تعريف واستخدام مصطلح الاغتراب عائد إلى المنطلق الذي تتحدد به زاوية النظر إلى هذا المصطلح، فهو من وجهة نظر دينية يظهر في أن "الأديان الثلاثة الكبرى:اليهودية والمسيحية والإسلام) تلتقي على مفهوم أساسي واحد للاغتراب بمعنى الانفصال، انفصال الإنسان عن الله، وانفصال الإنسان عن الطبيعة ــ الملذات والشهوات ــ وانفصال الإنسان (المؤمن) عن الإنسان (غير المؤمن)، وان المفهوم الديني للاغتراب عن الآخر وعن الطبيعة ينطوي على أن الاغتراب ظاهرة حتمية في الوجود الإنساني وحياة الإنسان على الأرض ما هي إلا غربة عن وطنه الأسمى، وطنه السماوي"(1). أما وجهة النظر الفلسفية لهذا المصطلح فتكاد تنحصر بآراء الفيلسوفين هيجل وماركس، إذ أنهما رائدا البحث في هذا الموضوع على المستوى الفلسفي(2). وقد حدد الوجوديون فكرة الاغتراب عند هيجل وماركس بنظرة شمولية واحدة تتجسد في أنه" انعكاس لتصدعات وانهيارات في العلاقة العضوية بين الإنسان وتجربته الوجودية، الذات/الموضوع،الجزء/الكل، الفرد/المجتمع، الحاضر/المستقبل"(3). أما المنطلق النفسي والاجتماعي في تحديد مفهوم الاغتراب فقد كان يدور في إطار العزلة واللاجدوى، وانعدام المغزى الذي يشكل" نمطاً من التجربة يعيش الإنسان فيه كشيء غريب، ويصبح غريباً حتى عن نفسه"(4). والمقصود بالاغتراب عن النفس هو افتقاد المغزى الذاتي والجوهري للعمل الذي يؤديه الإنسان وما يصاحبه من شعور بالفخر والرضا، وبديهي أن اختفاء هذه المزايا من العمل الحديث يخلق شعوراً بالاغتراب عن النفس. وتكشف لنا عناية واهتمام النظم الفكرية (الفلسفة ـ علم النفس ـ علم الاجتماع) والنظم الروحية (الديانات) بهذا المصطلح على مر العصور عن عمق بحثها في طبيعة هذا المصطلح ومظاهرة ومصادره.. وهل هو حالة عقلية أم اجتماعية أم موقف وجودي؟ ويبدو أن جميع هذه النظم تتفق في كون اغتراب الإنسان هو اغتراب تاريخي مرتبط بعلاقته بالوجود مرت بمراحل صراع مختلفة أراد الإنسان فيها انتزاع حريته، لذا فإن تاريخ اغتراب الإنسانية هو تاريخ بحثها عن الحرية، ولكي لا يشعر الإنسان بالاغتراب تجاه تاريخه فإنه ملزم بتحرير التاريخ من الاغتراب، بمعنى إحداث تغيير في مجرى التاريخ، وهذا يتم بأن يدخل الإنسان في تحديد مسار التاريخ ويتحرك به ومعه. ويمكننا الآن وصف مفهوم الاغتراب بأنه صراع الإنسان مع أبعاد وجوده، ويمكننا تحديد هذه الأبعاد بثلاثة أركان أساسية:
1 ــ البعد الحسي: ويكون الصراع فيه مع القوى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لتحديد موقفه التاريخي مما يدور حوله، ويكون مغترباً عن هذا الموقف لأنه لا يتحقق، فيبقى الإنسان مستهلكاً مسلوب الذات.
2 ــ البعد القِـيمي: وينتج الصراع فيه عن بحث الإنسان عن عالم المُثل (المفقود) لأن الواقع الذي يعيش فيه يسحق شخصيته الإنسانية ويشوهها فيهرب إلى عالم الخيال، ويقترح للإنسانية أساساً روحياً بدلاً عن الأساس الواقعي لها، ويزداد الصراع في هذا البعد كلما ازداد وعي الإنسان بذاته، إذ يبدو له كل ما يحيط به ثقلاً عليه، وقيوداً يضيق بها ضرعاً ولا يخرج من ذلك تواصله أو علاقاته الاجتماعية، ومن هنا تأتي عزلته، ومن ثم اغترابه عن القيم الواعية التي تحيط به وتحكمه.
3 ــ البعد الميتافيزيقي: ويتجلى الصراع في هذا البعد حين يدير الإنسان ظهره للواقع ويتجه إلى عالم الماوراء في محاولة منه لإدراك حقيقة وجوده وموقفه الكوني منه، وبما أن المعطيات الحسية غير كفيلة بفهم العالم الميتافيزيقي فإن الإنسان يظل في شك مستمر في كون الوجود الذي لم يتحقق.. هل هو وجود فعلي أم محتمل؟. ومن هنا يأتي اغترابه الكلي عن شرائط وجوده.
والسلام عليكم
[center]